فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما خصهم، عم بقوله واعظًا ومخوفًا ومحذرًا بأن كل شيء محفوظ فمكتوب فمعروض على الإنسان يوم الجمع: {وكل صغير وكبير} من الجواهر والمعاني منهم ومن غيرهم {مستطر} أي مكتوب على وجه عظيم من اجتهاد الحفظة في كتابته وتحريره مع يسر ذلك وسهولته.
ولما أخبر عن أحوال الكفرة في الدنيا والآخرة واعظًا بها وإعلامًا بعظمته وعليّ صفاته وسعة مملكته وشامل علمه وقدرته، ختم بأحوال القسم الآخر من أهل الساعة وهم أهل طاعته تتميمًا لذلك وإشارة وبشارة للسالك في أحسن المسالك، فقال مؤكدًا ردًا على المنكر: {إن المتقين} أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئًا إلا بدليل.
ولما كان من البساتين والمياه وما هو ظاهر بكل مراد على عكس ما عليه الضال البعيد عن القصد الواقع في الهلاك والنار قال: {في جنات} أي في بساتين ذات أشجار تسر داخلها، قال القشيري: والجمع إذا قوبل بالجمع فالأحاد تقابل الأحاد.
ولما كانت الجنان لا تقوم وتدوم إلا بالماء قال: {ونهر} وأفرده لأن التعبير بـ {في} مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى: أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلًا بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط.
ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان، بين أن حال تلك غير حال هذه، فقال مبدلًا مما قبله: {في مقعد} أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود {صدق} أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق، ولا يكون فيه إلا صدقه، لا لغو فيه ولا تأثيم، والتوحيد لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع.
ولما كان هذا غير معهود، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم، فقال مقيدًا لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات: {عند مليك} أي ملك تام الملك {مقتدر} أي شامل اقدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريبًا، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين، ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه، وعفوه ومغفرته ورضوانه، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان، وهم الذين آمنوا، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم الأعظم.
فلم يذكر في واحدة منها وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] ولهذا ختمت هذه بصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائنًا من كان، لأن الملك من حيث هو ملك إما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضًا، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي صلى الله عليه وسلم من العظمة بخرق العوائد باختراق السماوات، والوصول إلى أنهى الغاية من المناجاة، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق، فكان ذلك مقتضيًا لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر، وكأنها جعلت ثلاثًا لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد، فلما انقضت الثلاثة كان متبركًا به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه ترهيبًا لمن يعصي ولا سيما من يظاهر، وترغيبًا في الطاعة للملك الغافر، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} وفيه مسائل:
الأولى: المشهور أن قوله: {إِنَّا كُلَّ شَىْء} متعلق بما قبله كأنه قال: ذوقوا فإنا كل شيء خلقناه بقدر، أي هو جزاء لمن أنكر ذلك، وهو كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] والظاهر أنه ابتداء كلام وتم الكلام عند قوله: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] ثم ذكر بيان العذاب لأن عطف: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} [القمر: 50] يدل على أن قوله: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} ليس آخر الكلام.
ويدل عليه قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] وقد ذكر في الآية الأولى الخلق بقوله: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه} فيكون من اللائق أن يذكر الأمر فقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} وأما ما ذكر من الجدل فنقول النبي صلى الله عليه وسلم تمسك عليهم بقوله: {إِنَّ المجرمين في ضلال} [القمر: 47] إلى قوله: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] وتلا آية أخرى على قصد التلاوة، ولم يقرأ الآية الأخيرة اكتفاء بعلم من علم الآية كما تقول في الاستدلالات: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم} [النساء: 29] الآية: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية: {وَإِذَا تَدَايَنتُم} [البقرة: 283] الآية إلى غير ذلك.
المسألة الثانية:
{كُلٌّ} قرئ بالنصب وهو الأصح المشهور، وبالرفع فمن قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر كقوله: {والقمر قدرناه} [يس: 39] وقوله: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] وذلك الفعل هو خلقناه وقد فسره قوله: {خلقناه} كأنه قال: إنا خلقنا كل شيء بقدر، وخلقناه على هذا لا يكون صفة لشيء كما في قوله تعالى: {وَمِن كُلّ شيء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] غير أن هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خاليًا عن ضمير عائد إلى الموصوف، وههنا لم يوجد ذلك المانع، وعلى هذا فالآية حجة على المعتزلة لأن أفعالنا شيء فتكون داخلة في كل شيء فتكون مخلوقة لله تعالى، ومن قرأ بالرفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} [فصلت: 17] حيث قرئ بالرفع لأن كل شيء نكرة فلا يصح مبتدأ فيلزمه أن يقول: كل شيء خلقناه فهو بقدر، كقوله تعالى: {وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] في المعنى، وهذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره وذكر أن المعتزلي يتمسك بقراءة الرفع ويحتمل أن يقال: القراءة الأولى وهو النصب له وجه آخر، وهو أن يقال: نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسر وهو قدرنا أو خلقنا، كأنه قال: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، أو قدرنا كل شيء خلقناه بقدر، وإنما قلنا: إنه معلوم لأن قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء} [غافر: 62] دل عليه، وقوله: {وَكُلَّ شيء بِمِقْدَارٍ} دل على أنه قدر وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزلي وإنما يدل على بطلان قوله: {الله خالق كُلّ شَىْء} [الزمر: 62] وأما على القراءة الثانية وهي الرفع، فنقول: جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بقدر خبره وحينئذ تكون الحجة قائمة عليهم بأبلغ وجه، وقوله: {كُلّ شَىْء} نكرة فلا يصلح مبتدأ ضعيف لأن قوله: {كُلّ شَىْء} عم الأشياء كلها بأسرها، فليس فيه المحذور الذي في قولنا: رجل قائم، لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة، وقوله: {كُلّ شَىْء} يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة، ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم.
المسألة الثالثة:
ما معنى القدر؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: المقدار كما قال تعالى: {وَكُلُّ شيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته، أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد، وأما الجوهر الفرد مالا مقدار له والقائم بالجوهر مالا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما، فنقول: هاهنا مقادير لا بمعنى الامتداد، أما الجواهر الفرد فإن الإثنين منه أصغر من الثلاثة، ولولا أن حجمًا يزداد به الامتداد، وإلا لما حصل دون الامتداد فيه، وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية، فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية، وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدىء زمانًا فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثًا، فإن قيل: الله تعالى وصف به، ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده، نقول: المتكلم إذا كان موصوفًا بصفة أو مسمى باسم، ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة، وأسند فعلًا من أفعاله إليه يخرج هو عنه، كما يقول القائل: رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني، ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم، بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة، فكذلك قوله: {خلقناه} و{خالق كُلّ شَىْء} [الزمر: 62] يخرج عنه لا بطريق التخصيص، بل بطريق الحقيقة إذا قلنا: إن التركيب وضعي، فإن هذا التركيب لم يوضع حينئذ إلا لغير المتكلم ثانيها: القدر التقدير، قال الله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] وقال الشاعر:
وقد قدر الرحمن ما هو قادر.. أي قدر ما هو مقدر، وعلى هذا فالمعنى أن الله تعالى لم يخلق شيئًا من غير تقدير، كما يرمي الرامي السهم فيقع في موضع لم يكن قد قدره، بل خلق الله كما قدر بخلاف قول الفلاسفة إنه فاعل لذاته والاختلاف للقوابل، فالذي جاء قصيرًا أو صغيرًا فلاستعداد مادته، والذي جاء طويلًا أو كبيرًا فلاستعداد آخر، فقال تعالى: {كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} منا فالصغير جاز أن يكون كبيرًا، والكبير جاز خلقه صغيرًا ثالثها: {بِقَدَرٍ} هو ما يقال مع القضاء، يقال بقضاء الله وقدره، وقالت الفلاسفة في القدر الذي مع القضاء: إن ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر، فيقولون: خلق النار حارة بقضاء وهو مقضي به لأنها ينبغي أن تكون كذلك، لكن من لوازمها أنها إذا تعلقت بقطن عجوز أو وقعت في قصب صعلوك تخرقه، فهو بقدر لا بقضاء، وهو كلام فاسد، بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فقوله: {كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} أي بقدره مع إرادته، لا على ما يقولون إنه موجب ردًا على المشركين.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} أي إلا كلمة واحدة، وهو قوله له: (كن) هذا هو المشهور الظاهر، وعلى هذا فالله إذا أراد شيئًا قال له: (كن) فهناك شيئان: الإرادة والقول، فالإرادة والقول، فالإرادة قدر، والقول قضاء، وقوله: {واحدة} يحتمل أمرين أحدهما: بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نفاذ الأمر ثانيهما: بيان عدم اختلاف الحال، فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النمل الصغير، فأمره عند الكل واحد وقوله: {كَلَمْحٍ بالبصر} تشبيه الكون لا تشبيه الأمر، فكأنه قال: أمرنا واحدة، فإذن المأمور كائن كلمح بالبصر، لأنه لو كان راجعًا إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به، فإن كلمة (كن) شيء أيضًا يوجد كلمح بالبصر هذا هو التفسير الظاهر المشهور، وفيه وجه ظاهر ذهب إليه الحكماء، وهي أن مقدورات الله تعالى هي الممكنات يوجدها بقدرته، وفي عدمها خلاف لا يليق بيانه بهذا الموضع لطوله لا لسبب غيره، ثم إن الممكنات التي يوجدها الله تعالى قسمان أحدهما: أمور لها أجزاء ملتئمة عند التئامها يتم وجودها، كالإنسان والحيوان والأجسام النباتية والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة، والسموات، وسائر الأجسام وسائر ما يقوم بالأجسام من الأعراض، فهي كلها مقدرة له وحوادث، فإن أجزاءها توجد أولًا، ثم يوجد فيها التركيب والالتئام بعينها، ففيها تقديرات نظرًا إلى الأجزاء والتركيب والأعراض وثانيهما: أمور ليس لها أجزاء ومفاصل ومقادير امتدادية، وهي الأرواح الشريفة المنورة للأجسام، وقد أثبتها جميع الفلاسفة إلا قليلًا منهم، ووافقهم جمع من المتكلمين، وقطع بها كثير ممن له قلب من أصحاب الرياضات وأرباب المجاهدات، فتلك الأمور وجودها واحد ليس يوجد أولًا أجزاء، وثانيًا تتحقق تلك الأجزاء بخلاف الأجسام والأعراض القائمة بها، إذا عرفت هذا قالوا: الأجسام خلقية قدرية، والأرواح إبداعية أمرية، وقالوا إليه الإشارة بقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالخلق في الأجسام والأمر في الأرواح ثم قالوا: لا ينبغي أن يظن بهذا الكلام أنه على خلاف الأخبار فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله العقل»، وروى عنه عليه السلام أنه قال: «خلق الله الأرواح قبل الأجسام بألفي عام» وقال تعالى: {الله خالق كُلّ شَىْء} [الزمر: 62] فالخلق أطلق على إيجاد الأرواح والعقل لأن إطلاق الخلق على ما يطلق عليه الأمر جائز، وإن العالم بالكلية حادث وإطلاق الخلق بمعنى الإحداث جائز، وإن كان في حقيقة الخلق تقدير في أصل اللغة ولا كذلك في الأحداث، ولولا الفرق بين العبارتين وإلا لاستقبح الفلسفي من أن يقول المخلوق قديم كما يستقبح من أن المحدث قديم، فإذن قوله صلى الله عليه وسلم خلق الله الأرواح بمعنى أحدثها بأمره، وفي هذا الإطلاق فائدة عظيمة وهي أنه صلى الله عليه وسلم لو غير العبارة وقال في الأرواح أنها موجودة بالأمر والأجسام بالخلق لظن الذي لم يرزقه الله العلم الكثير أن الروح ليست بمخلوقة بمعنى ليست بمحدثة فكان يضل والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة، وقالوا: إذا نظرت إلى قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85] وإلى قوله تعالى: {خُلِقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الحديد: 4] وإلى قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عظاما} [المؤمنون: 14] تجد التفاوت بين الأمر والخلق والأرواح والأشباح حيث جعل لخلق بعض الأجسام زمانًا ممتدًا هو ستة أيام وجعل لبعضها تراخيًا وترتيبًا بقوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا} وبقوله: {فَخَلَقْنَا} ولم يجعل للروح ذلك، ثم قالوا: ينبغي أن لا يظن بقولنا هذا إن الأجسام لابد لها من زمان ممتد وأيام حتى يوجدها الله تعالى فيه، بل الله مختار إن أراد خلق السموات والأرض والإنسان والدواب والشجر والنبات في أسرع من لمح البصر لخلقها كذلك، ولكن مع هذا لا تخرج عن كونها موجودات حصلت لها أجزاء ووجود أجزائها قبل وجود التركيب فيها ووجودها بعد وجود الأجزاء والتركيب فيها فهي ستة ثلاثة في ثلاثة كما يخلق الله الكسر والإنكسار في زمان واحد ولهما ترتيب عقلي.
فالجسم إذن كيفما فرضت خلقه ففيه تقدير وجودات كلها بإيجاد الله على الترتيب والروح لها وجود واحد بإيجاد الله تعالى هذا قولهم.